علامات الساعة الكبرى - يأجوج ومأجوج
يأجوج ومأجوج أمتان من البشر من ذرية آدم عليه السلام، ولهم مع ذي القرنين قصة ذكرت في سورة الكهف، ويتميزون على بقية البشر بالاجتياح المروع، والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب، والإفساد في الأرض بصورة لم يسبق لها مثيل، وذلك قرب قيام الساعة، حتى يأذن الله بنزول عيسى عليه السلام، فيكون هلاكهم عل يديه ومن معه من المؤمنين، ويعد خروجهم من علامات الساعات الكبرى.
خروج يأجوج ومأجوج بين يدي الساعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة: سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي؛ الهدف منها: تذكير الناس بحقيقة الدنيا؛ للإنابة والتوبة إلى الله جل وعلا، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية، ولا إلى أهلهم يرجعون. وهذا هو لقاؤنا السادس من لقاءات هذه السلسلة، وكنت قد تحدثت في اللقاءين الماضيين عن علامتين من علامات الساعة الكبرى، ألا وهما: الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وحديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن علامة أخرى من هذه العلامات الكبرى التي ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح، الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: (اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر، فقال المصطفى: ما تذاكرون - أي: في أي شيء تتحدثون وتتكلمون- فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال المصطفى: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، وهي: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). تكلمنا عن الدجال وعن نزول عيسى عليه السلام، وحديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن يأجوج ومأجوج. وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث -مع حضراتكم اليوم- عن يأجوج ومأجوج في العناصر التالية: أولاً: تأصيل لغوي وشرعي مختصر. ثانياً: بعث النار. ثالثاً: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج. رابعاً: خروجهم بين يدي الساعة. وأخيراً : عيسى بن مريم والدعاء المستجاب. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.......
تأصيل لغوي وشرعي مختصر
أولاً: تأصيل لغوي وشرعي مختصر: أيها الأحبة! لقد أورد كثير من المؤرخين والمفسرين أخباراً عجيبة، وروايات غريبة عن يأجوج ومأجوج، ذكروا في هذه الروايات والأخبار أصلهم، ونسبهم، وأشكالهم، وألوانهم، ومكانهم!! وهذه الأخبار والروايات لا تعدو أن تكون مجرد خرافات وأوهام وخيالات وأساطير؛ لأنها أُخِذَت من الإسرائيليات، أُخِذَت من غير المصادر اليقينية، أي: القرآن والسنة الصحيحة النبوية، ولا يجوز ألبتة لأحدٍ أن يتكلم في مثل هذه الأمور الغيبية إلا بالدليل الصريح من القرآن، أو بالدليل الصحيح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام. فلسنا في حاجة -على الإطلاق- لأن نلهث وراء الإسرائيليات والأخبار العجيبة والموضوعة، لنتكلم عن يأجوج ومأجوج أو عن ذي القرنين ، وإنما يجب علينا جميعاً أن نقف عند النص اليقيني في كتاب ربنا، وفي سنة الحبيب نبينا؛ ففيهما الغنى، فلو علم الله في الزيادة -عما ذكر في القرآن، وعما ذكره المصطفى- خيراً لذكرها لنا. إذاً: فلنقف أمام النص القرآني، وأمام الحديث النبوي الصحيح، من كلام الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد هذه الكلمات أقول: يأجوج ومأجوج أُمَّتَانِِ من البشر من ذرية آدم عليه السلام، يتميزون على بقية البشر بالاجتياح المروع، والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب، والإفساد في الأرض بصورة لم يسبق لها مثيل!! وقال المحققون من أهل اللغة -نقلاً عن ابن منظور في لسان العرب وغيره من أهل اللغة-: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان مشتقان من أجيج النار، أي: من التهابها، ومن الماء الأجاج: وهو الشديد الملوحة والحرارة. فشبَّهوهم بالنار المضطرمة المتأججة، وبالمياه الحارة المحرقة المتموجة؛ لكثرة تقلبهم، واضطرابهم، وتخريبهم، وإفسادهم في الأرض. هذا هو التأصيل الذي لابد منه بداية؛ حتى لا نعطي لخيالنا العنان؛ لنلهث وراء الخرافات والأساطير والأوهام.
أعلى الصفحة
من هم بعث النار؟
لذا أخبرنا المصطفى أن يأجوج ومأجوج هم بعث النار يوم القيامة، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: ولن تجد عندي اليوم إلا آية أو حديثاً صحيحاً عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، كما فصلنا وقررنا في أول لقاء. ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم! فيقول آدم: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول الله جل وعلا: أَخْرِج بعث النار -أي: من أمتك- فيقول آدم عليه السلام: وما بعث النار يا رب؟! -تدبر- فيقول الملك: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون -اللهم سلم سلم!! من كل ألف في أرض المحشر تسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم- إلى النار،فشق ذلك على أصحاب النبي المختار) وفي رواية: (فيئس القوم، حتى ما أبدوا بضاحكة) وفي رواية: (فبكى أصحاب المصطفى وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟) -رجل من الألف ينجو من النار فأينا ذلك الرجل؟- فقال المصطفى: (أبشروا! أبشروا!فمن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، ثم قال المصطفى: والذي نفسي بيده! إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة! فكبرنا!! -كبر أصحاب النبي، أي: قالوا: الله أكبر، أمة النبي من بين جميع الأمم تشغل ربع أهل الجنة، فكبر أصحاب النبي، أي: قالوا: الله أكبر- ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة. فكبرنا!! فقال المصطفى في الثالثة: والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة).
أعلى الصفحة
أمة النبي أمة مرحومة وميمونة
أمة النبي أمة مرحومة.. أمة النبي أمة ميمونة. قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا اسجد له شكراً أنك من أمة الحبيب محمد، فأمة المصطفى أمة مرحومة أثنى عليها ربها، وأثنى عليها نبيها صلى الله عليه وسلم . قال الله لها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقال الله لها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] وقال في حقها المصطفى الصادق -والحديث رواه الترمذي و أحمد و ابن ماجة بسند حسن: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا). بل وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: يا نوح! هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، يا رب! فيدعى قومه، ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقول قوم نوح: لا، ما بلغنا، وما أتانا من نذير، فيقول الحق جل وعلا -وهو أعلم-: من يشهد لك يا نوح! أنك بلغت قومك؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أدعى فأشهد عليكم. وذلك قول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]) بل ومن الأحاديث الممتعة التي تبين فضل السابقين واللاحقين من أمة سيد النبيين: ما رواه البخاري و مسلم من حديث أبى هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة يوماً -أي: لزيارتها- فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنّا -إن شاء الله- بكم لاحقون. ثم قال الحبيب: وددت أنَّا قد رأينا إخواننا. فقال الصحابة: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا قوم لم يأتوا بعد. فقال الصحابة: فكيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال المصطفى: أرأيتم لو أن رجلاً له خيلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَة -والغرة: الشعر الأبيض في جبين الفرس، والتحجيل: الشعر الأبيض حول ساق أو قدم الفرس يخالف لون الشعر في الفرس كله، كأن يكون الفرس أسود اللون فالغرة تكون باللون الأبيض- بين ظَهْرَي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ -أي: سود- ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، يا رسول الله! فقال المصطفى: فأنا أعرفهم يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) فأمة النبي أمة مرحومة. أما حينما خاف الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟! فقال: أبشروا! فمن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد؛ فإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين الطبيعة الشريرة والسيئة لهاتين الأمتين الخبيثتين: يأجوج ومأجوج، وليبين المصطفى في الوقت ذاته الطبيعة الخيرة الكريمة المباركة لأمة الحبيب محمد، نسأل الله عز وجل أن يحشرنا وإياكم جميعاً تحت لوائه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة هنيئة ولا نظمأ بعدها أبداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أزيدك بياناً عن طبيعة يأجوج ومأجوج بعد أن أقف -مع حضراتكم- مع هذا الحوار الجميل بين ذي القرنين، وقوم تعرضوا للفساد والإيذاء على أيدي يأجوج ومأجوج، وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز.
أعلى الصفحة
ذو القرنين ويأجوج ومأجوج
أيها الحبيب! لقد حكى الله قصة ذي القرنين في سورة واحدة من سور القرآن، ألا وهي: سورة الكهف، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا* قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:83-98]. هذه هي قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج، وأقول لك: إن قصة ذي القرنين هي الأخرى قد نُسِجَ حولها من الأساطير والخرافات، والخيالات والأوهام ما يندى له جبين التحقيق خجلاً وحياءً!! لا يجوز لأحد -يحترم علمه وعقله- أن يتجاوز النص القرآني في قصة ذي القرنين، فما ذكره الله في القرآن عن ذي القرنين فيه الغنى وفيه الكفاية، ولسنا في حاجة لأن نلهث وراء الإسرائيليات؛ لننسج حول شخصية ذي القرنين الأساطير والخرافات والأوهام. ......
من هو ذو القرنين؟
ذو القرنين عبد صالح، اختلف أهل التفسير في نبوته، لكن لا يستطيع أحد أن يجزم بذلك. هذا الرجل تبدأ قصته بسؤال المشركين للنبي المصطفى عن ذي القرنين، في قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، ويأتي الجواب من الله جل وعلا: (قل) يا محمد! وكلمة (قل) يسميها علماء التفسير وعلماء اللغة (قل) التلقينية، أي: القصة ليست من عند رسول الله، بل هي وحي من عند الله جل وعلا، يأمر به المصطفى أن يقول لمن سأل عن ذي القرنين : قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83]، وكلمة (منه) من فيها هي التبعيضية، أي: سأتلو عليكم بعض الشيء من قصته، ولا أتلو عليكم قصة ذي القرنين بكامل فصولها، كما ذكر القرآن قصصاً بكاملها في كثير من السور، كقصة يوسف وقصة موسى، بل سأتلو عليكم منه ذكراً، سأتلو عليكم بعض الشيء من قصة ذي القرنين . ولو علم الله في الزيادة عن النص القرآني خيراً لذكرها لنا. فلنقف عند ما ورد في القرآن، وعند ما ثبت في حديث النبي عليه الصلاة والسلام.
أعلى الصفحة
التمكين في الأرض من الله عز وجل
قال الله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]، فمن الذي مَكَّنَ لـذي القرنين؟ الله. وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، الذي مكن له هو الله، أعطاه من الأسباب ما استطاع به أن يفتح وأن ينتصر وأن يجوب البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً.. إلخ. ولفظة التمكين إن فتشت عنها في القرآن سترى أنها في كل مرة وردت تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه قاعدة إيمانية ينبغي أن تؤصل في القلوب. فالذي يُمَكِّن للدول والأمم والشعوب هو الله، والذي يمكن لهذا الحاكم هو الله، والذي يأمر بزوال وهلاك هذا الحاكم هو الله، فيجب علينا جميعاً أن تتعلق قلوبنا بالملك الذي يفعل كل شيء، مع الأخذ بالأسباب، فهذا من حقيقة التوكل على الله عز وجل. لا تسود أمة إلا بإذن الله، ولا تزول أمة إلا بإذن الله، ولا يسود حاكم إلا بإذن الله، ولا يزول حاكم إلا بإذن الله إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]. وقال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] ثم قال الله تعالى: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:84-85]، أي: بأسباب التمكين والنصر والفتح والظهور. فهناك من الأمم من يمكن الله لها، فتأخذ بأسباب التمكين، فيزيدها الله ثباتاً وتمكيناً، فإن فرطت أذهب الله عنها التمكين. وهناك من الحكام من إذا مكن الله له أخذ بوسائل التمكين، فزاده الله رفعة ونصراً فإن فرط في هذه الأسباب والوسائل أمر الله عز وجل بزواله وهلاكه.
أعلى الصفحة
رحلة ذي القرنين الأولى
ويبدأ ذو القرنين الرحلة الجهادية الأولى في سبيل الله نحو المغرب. قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا [الكهف:86] ومن المعلوم أن الشمس ليس لها مشرق واحد ولا مغرب واحد، بل لها عدة مشارق ولها عدة مغارب. قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج:40] لها مشارق ومغارب بحسب فصول السنة وأيامها وشهورها، لها مشارق ومغارب بحسب الأماكن، لها مشارق ومغارب بحسب رؤية الرائي إلى قرص الشمس أثناء الشروق أو الغروب. حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ [الكهف:86] فبين ذو القرنين منهجه العادل ودستوره الحكيم،: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا [الكهف:87] وأما من آمن ووحد الله عز وجل واستقام على منهج الله، فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88].
أعلى الصفحة
رحلة ذي القرنين الثانية
ثم انطلق نحو المشرق في رحلة ثانية: قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا [الكهف:90] لا يحمي هؤلاء الناس والقوم شيء على الإطلاق، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء. ثم قال سبحانه وتعالى: كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا [الكهف:91]، أي: علم الله عز وجل كل ما يدور في قلبه وفي نفسه.